كان أحد الأسئلة المهمة التي طُرحتْ كثيراً في شهر رمضان الأخير، ولا تزال جديرة بالطرح: ما هي خلفية الكم الهائل من التصاريح الممنوحة للفلسطينيين من خلال أجهزة الأمن الإسرائيلية، والتي بموجبها تسمح لآلاف الفلسطينيين من الضفة الغربية بدخول القدس وأراضي فلسطين المحتلة عام 48؟ في الجانب الفلسطيني يعتبرون الخطوة استدراجاً للمال الفلسطيني بحيث تتم تغذية السوق الإسرائيلية وتنشيط حركة التجارة فيها من خلال المتسوقين والمصلين الفلسطينيين الذين ينفقون مدخراتهم في شهر رمضان وعيدي الفطر والأضحى، وبالتالي فالدافع انطلاقاً من هذه الرؤية هو دافع اقتصادي بحت. إسرائيل بدورها، وعلى لسان محلليها وسياسييها، نفتْ هذا الدافع جملة وتفصيلاً مشددة على أن السبب الرئيسي وراء ذلك هو إنساني بحت، فرمضان وعيدا الأضحى والفطر وسوق العمل هي قضايا أساسية، تتسم بإنسانيتها، وبالتالي فالغاية من التصاريح رأب الصدع وتسوية العلاقات مع الفلسطينيين، كخطوة لأجل كسب الود، إضافة إلى إعطاء عينة للفلسطينيين عن التسهيلات التي قد يحظون بها إذا ما توقفوا عن مقاومتهم.
هناك بعض الصحة لدى كل طرف، لكن المؤكد أن إسرائيل كدولة تنفق مبالغ ضخمة لأجل تعزيز أمنها الذي توليه أهمية قصوى، لن تضحي بهذا الأمن لقاء عائد مادي لا يتجاوز بضعة ملايين من الدولارات، لمرة واحد ( رمضان، عيد الأضحى، عيد الفطر)، عدا عن كون الاقتصاد الفلسطيني اقتصاداً مرتبطاً ومحتوى داخل النظام الاقتصادي الإسرائيلي، وبالتالي فإن إسرائيل ستجني أرباح المشتريات والتسوق سواء أنفق الفلسطينيون أموالهم في القدس أو في رام الله أو في جنين. وبالتالي فالعنصر الإنساني هو أبعد ما يكون عن الحقيقة، خصوصاً وأن سياسة إسرائيل لا تلتقي مع الإنسانية في شيء، وما الخطوات الإنسانية إلا خطوات وظائفية تعزز المقدرة السياسية الإسرائيلية للمناورة.
ما تديره أجهزة الأمن الإسرائيلية في حقيقة الأمر عبر هذه الخطوة هو معركة أشد شراسة وخطورة من سابقاتها، معركة على الوعي الفلسطيني، حيث يكون وعي الفلسطيني وذاكرته هو ساحة الحرب. فالإنسان في نهاية الأمر هو كائن صوري، يُدرك الأشياء من خلال الصور والعلامات، من خلال اللغة (وهي أيضاً نظام علامات) يبني صوراً ويستعيدها ويترجمها في أنماط سلوكية لاحقاً. راكم الفلسطينيون القاطنون في رام الله، الخليل، أو في جنين خلال مسيرة حياتهم كماً هائلاً من الصور، ليشكلوا معاً صورة جمعية لـ "فلسطين التاريخية"، الفردوس المفقود، التي سيعيشون فيها، وبالتالي صارت كلمة "فلسطين" على صغرها، خزاناً كاملاً من الدلالات والصور، حيث تستحضر عشرات الصور والأفكار في اللحظة التي يتم فيها ذكر هذه الكلمة، تستحضر صوراً لحيفا وعكا ويافا والناصرة. تستحضر النكبات والانتفاضة والمظاهرات وغيرها. لكل فلسطيني صورة كاملة في ذهنه عن فلسطين، مُشكلة من أحاديث الجد والجدة الذين عانوا ويلات النكبة، مشكلة من قصص اللجوء، من حياة الفلسطيني اليومية، من الانتفاضة، من المدرسة، من القصيدة والأغنية.
في خلال عملي مع أطفال فلسطينيين (اليوم ربما صاروا شباناً) في عدة قرى ومناطق في الضفة الغربية، في ورشات إبداعية وكتابية مختلفة (والذين معظمهم قد عاصر الانتفاضة الثانية وعايشها) كنت أسأل الأطفال دوماً ماذا تعني فلسطين، أو ما هي فلسطين بالنسبة لكم؟ وكانت الإجابات في أغلب الأحيان تتكرر:" سينما، صحافة، مواصلات عامة، حفلات وأمسيات فنية وثقافية، شاطئ بحر، خيول، حديقة واسعة، بيوت قديمة من الحجر، قرى جميلة مع مناظر طبيعية خلابة، سكون وهدوء مع أصوات ديوك في البعيد".
الخطوة الإسرائيلية عبر التصاريح تثير البلبلة لدى الفلسطينيين، هي زرع صور جديدة لفلسطين تحاول زعزعة الصورة المتخيلة والمشكلة عبر حياة الفلسطيني، كأن يعطي مثلاً صورة مختلفة لحيفا، فحيفا التي تقدمها إسرائيل ليست حيفا قهوة الشرق، وهي ليست عاصمة الثقافة الفلسطينية في العشرينيات والثلاثينيات، ليست جريدة الكرمل ولا وادي النسناس. إسرائيل تقول للفلسطينيين، حيفا التي تعرفونها هي فقط في رؤوسكم، تعالوا لتروا حيفا الجديدة بصيغتها الإسرائيلية المميزة، حيفا "الكرمليت (قطار يشق الكرمل عبر نفق تحت الأرض ) والأنفاق، حيفا الكرمل الممتلئ بالسواح، حيفا شاطئ دادو، وشاطئ الطلبة والجامعة وجبال الكرمل.
الفلسطيني الذي يعيش ويقتات على صور وطنه الذي اقتُلع منه، على صور تراكمت وتعززت وتلونت من خلال قصص الأجداد وتفاصيل حياته، بات أمام واقع آخر مختلف تماماً، أمام صورة جديد تحاول زعزعة، وتشويه الصورة المتخيلة، أمام صور جيدة لا تفتأ تحفر أسفل الصور المتخيلة.
تصريح الدخول ذاته يحمل أقوالاً مضمرة تقولها إسرائيل لحامل التصريح: مسموح لك بالدخول، مسموح لك بالتسوق، التجول، والصلاة، كل ما يحلو لك. أنت لا غيرك، لا أصدقاؤك ولا حتى أخوتك، الميزة تمنحها دولة إسرائيل فقط لك ولأجلك، انطلاقاً من حسن سلوكك". القول المضمر ينهك الصورة المتخيلة عن فلسطين، لتستبدل كل المقولات داخلها، وليُستبدل السؤال من كيف أسترجع الصورة، إلى كيف أستوعب الصورة الجديد وأرضي دولة إسرائيل لكي أحظى برؤيتها دوماً.
أن تتسوق في شارع يافا أو في منطقة مأمن الله، لن يدخل الكثير من الأموال لخزينة إسرائيل، لكن سيدخل الكثير من الصور الجديدة للوعي الفلسطيني، سيدخل حالة "المدنية"، سيحب بعض المتسوقين الفلسطينيين أن يتشبهوا بالبائعة الجميلة، بجسدها الغض وسترتها البيضاء، أو بالبائع ذي بنطال الجينز الأبيض، والحذاء الأسود الذي يلمع في آخر المتجر، سيحب البعض التشبه بالشاب الذي ينتقي عطراً لصديقته، أو للفتاة التي تمسك بفنجان قهوتها في زاوية مقهى "أروما" عندها قد يقول البعض: "أليس خسارة على كل السنين السابقة؟ أن تضيعها في عناء العمل السياسي متناسياً جمال الحياة من حولك، أليس من الأجمل أن تشارك في حفلة صاخبة كحفلات شارع يافا من المشاركة في مظاهرات المخيمات؟
يبدو أننا أمام المعركة الأخيرة في الحرب على الوعي الفلسطيني، بعد أن صادرت اسرائيل مساحات شاسعة في الضفة ولم تبق للفلسطينيين شيئاً، وبعد أن قامت أجهزة الأمن الإسرائيلية وعلى مدى سنوات طويلة بإجهاض الفعل الفلسطيني المقاوم، استتب لها الأمر في الضفة الغربية تقريباً مرافقاً بحالة هدوء تحب أجهزة الأمن أن تستمر، إذ لم يتبقَ سوى نسف المخيال الجمعي الفلسطيني، وشن حرب على الوعي الفلسطينيي وعلى الصور المتخيلة حول الأرض والوطن.
إسرائيل لديها من القوة والهيمنة ما يعينها على خلق الخطابات وفرضها على المُحْتَلين، كما تستطيع أن تستوعب الخطابات النقيضة والمناوئة لها، وتجيرها لصالحها من خلال ادعاء الديمقراطية التي تقبل كل من يهاجمها وينتقدها وهكذا تصير الخطابات النقيضة رمزاً لديمقراطية إسرائيل لا العكس. كما يتم تأطير الخطاب الفلسطيني المعارض ليتحول إلى جزء هامشي داخل الخطاب الإسرائيلي ومن النقاش الدائر فيها . هكذا تصير التصاريح مشروعاً إنسانياً، ويصير الوعي بؤرة إرهابية يجب نسفها واقتلاعها. والعودة إلى الوطن تصير ممكنة من خلال "مكتب التنسيق والارتباط". هكذا تكون إسرائيل قد منحت الفلسطينيين( وفق خطابها) "حق العودة" وبالتالي فمطالب الفلسطيني كلها مستجابة إن استجاب للخطاب الإسرائيلي وهو ما يعني تأطير الخطاب الفلسطيني ضمن قنوات الخطاب الإسرائيلي وعبره.
تأطير الخطاب الفلسطيني وقوننته، يمكن رؤيته حتى في كتاباتي ذاتها، كفلسطيني وعربي أكتب في وسائل إعلام عبرية، علي أن أصوغ خطابي دوماً وفقاً لآليات الخطاب الإسرائيلي. لأجل الكتابة والتعبير والاعتراض عليك أن تتبع آليات الخطاب المفروض من قبل القوى المهيمنة. وهكذا فحين كتبت مقالي هذا في العبرية لكي أقول للإسرائيليين إنكم لم تمنُّوا بخيركم على الفلسطيني، كان علي أن أكون مطلعاً وقارئاً ومنفتحاً على الأدب والفكر العبريين، كان علي قبول آلية التعبير، طريقة الصياغة، وقواعد اللغة العبرية. وعلى المستوى نفسه، حين يطلب الفلسطيني في الضفة الغربية تصريح دخول عليه أيضاً أن يقبل بنظام الدولة، بآلية عمل أجهزة الأمن، بنظام المتاجر والمقاهي والمواصلات، بطريقة تعامل محددة، وما يلي هذه المرحلة هو التماهي حتى الانسجام التام مع فكرة "دولة إسرائيل" وموافقتها حتى في قضايا معينة تجاه الفلسطينيين. وهو الأمر الأكثر خطورة في هذه المعركة، معركة الوعي.